سورة الصافات - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الصافات)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {وإِن يُونُسَ} بن متى، اسم أبيه، {لَّمِنَ المرسلينَ} إلى أهل نَيْنَوى، فكذَّبوه، فوعدهم بالعذاب، فلما رأى أمارات العذاب هرب عنهم، وهي معنى قوله: {إِذْ أَبَقَ} هرب. والإباق: الهرب إلى حيث لا يهتدي إليه الطلب، فسمي هربه من قومه بغير إذن ربه إباقاً، مجازاً. رُوي أنه لمَّا فرَّ عنهم، وقف في مكان ينتظر نزول العذاب بهم، وكان يُحب ذلك؛ لتكذيبهم إياه، فلما رأوا مخايل العذاب تابوا وخرجوا إلى الصحراء، يجأرون إلى الله تعالى، فكشف عنهم، فلما رأى يونس العذابَ انكشف عنهم، كره أن يرجع إليهم، فركب البحر، فأوى {إِلى الفُلْكِ المشحونِ}: المملوء بالناس والمتاع، فلما ركب معهم وقفت السفينة، فقالوا: هاهنا عبد آبق من سيده. وفيما يزعم أهل البحر: أن السفينة إذا كان فيها آبق لم تجرِ، فاقترعوا، فخرجت القرعةُ على يونس، فقال: أنا الآبق، وزجّ بنفسه في البحر، فذلك قوله: {فَسَاهَمَ}: فقارعهم مرة أو ثلاثاً بالسهام، {فكان من المدْحَضِين} المغلوبين بالقرعة. {فالتقمه الحوتُ} فابتلعه {وهو مُلِيمٌ} داخلٌ في الملامة، أو: آتٍ بما يُلام عليه، ولم يُلَم فإذا ليم كان مألوماً.
{فلولا أنه كان من المسبِّحينَ} من الذاكرين كثيراً بالتسبيح، أو: من القائلين: {لآَّ إِلَهَ إِلآَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مَنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] أو: من المصلين قبل ذلك؛ قال ابن عباس رضي الله عنه: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة. قال الحسن: ما كان له صلاة في بطن الحوت، ولكنه قدّم عملاً صالحاً فنجَّاه، وإنَّ العمل الصالح يرفع صاحبه، إذا عَثَرَ وجد متكئاً. اهـ. أي: فلولا طاعته قبل ذلك {لَلَبِثَ في بطنه إِلى يوم يُبعثون} قيل: للبث حيًّا إلى يوم البعث. وعن قتادة: لكان بطن الحوت قبراً له إلى يوم القيامة. وقد لبث في بطنه ثلاثة أيام، أو: سبعة أو: أربعين يوماً. وعن الشعبي: التقمه ضحوة، ولَفَظَه عشية. قيل: أوحى الله تعالى إلى الحوت: إني جعلت بطنك ليونس سجناً وفي رواية: مسجداً ولم أجعله لك طعاماً. اهـ.
{فَنَبَذْناه} أي: أخرجناه {بالعراءِ} بالمكان الخالي، لا شجر فيه ولا نبات. أو: بالفضاء، {وهو سقيم} عليل مطبوخ، مما ناله من بطن الحوت. قيل: إنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يُولد. {وأنبتنا عليه شجرةً} أي: أنبتناها فوقه، مُظلة كما يطنَّب البيتُ على الإنسان، {من يَقْطِينٍ} الجمهور على أنه القرع، وفائدته: أن الذباب لا تجتمع عنده، وأنه أسرع الأشجار نباتاً، وامتداداً، وارتفاعاً، وأن ورقه باطنها رطبة. وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتُحب القرع، فقال: «أجل، هي شجرة أخي يونس» قلت: ولعلها النوع الذي يُسمى اليوم السلاوي؛ لأنه هو الذي ورقه لينة، وفيه منافع.
رُوي أن ظبية كانت تختلف إليه، فيشرب من لبنها بكرة وعشية، حتى نبت لحمه، وأرسل الله تعالى على اليقطين دابة تقرض ورقها، فتساقطت حتى أذته الشمس، فشكاها إلى الله تعالى. وفي رواية: فحزن عليها، فقيل له: أنت الذي لم تخلُق، ولم تسقِ، ولم تُنبت، تحزن عليها وأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون تُريد مني أن أستأصِلَهم في ساعة واحدة، وقد تابوا، وتُبت عليهم، فأين رحمتي يا يونس، أنا أرحم الراحمين. اهـ.
{وأرسلناه إِلى مائةِ ألفٍ} المراد به القوم الذين بُعث إليهم قبل الالتقام، فتكون قد مضمرة، {أو يزيدون} في مرأى الناظر، أي: إذا رآها الرائي قال: هي مائة ألف أو أكثر. وقال الزجّاج: {أو} بمعنى بل. وقيل: بمعنى الواو. قال ابن عباس: زادوا على مائة ألف عشرين ألفاً. وقال الحسن: بضعاً وثلاثين ألفاً. وقال ابن جبير: سبعين ألفاً. وقيل: وأرسلناه بعد الالتقام إلى مائة ألف. وقيل: قوماً آخرين. {فآمنوا} به، وبما أُرسل به، {فمتعناهم} بالحياة {إِلى حين} منتهى أجلهم، ولم يُعاجَلوا، حيث تابوا وآمنوا.
الإشارة: في قصة يونس نكتة صوفية، ينبغي الاعتناء بها، وهو أن العبد إذا زلّت قدمُه، وانحطّ عن منهاج الاستقامة، لا ييأس ولا يضعُف عن التوجه، بل يلزم قرعَ الباب، ويتذكر ما سلف له من صالح الأعمال، فإن الله تعالى يرعى ذمام عبده، كما يرعى العبد ذمام سيده، وفي حال البُعد والغضب يظهر المحب الصادق من الكذّاب، وفي ذلك يقول ابن وفا رضي الله عنه:
ونحن على العهد نرعى الذمام *** وعهد المحبين لا ينقضي
صددت فكنت مليح الصدود *** وأعرضتَ أُفديك من معرض
وفي حالة السخط لا في الرضا *** بيان المحب من المُبغض
وفيها أيضاً: الحث على الشفقة على عباد الله، وإن كانوا عصاة. قال القشيري: وفي القصة: أن الله تعالى أوحى إلى يونس بعد نجاته: قُلْ لفلانٍ الفَخَّار: يَكْسِرَ من الجرات ما عمله في هذه السنة كلّها، فقال يونس: يا ربِّ، إنه تعنَّى مدة في إنجاز ذلك، فكيف آمُره يكسرها كلّها؟ فقال له: يا يونس، يَرِقُّ قلبُك لخزاف يُتْلِفُ عَمَلَ سنةٍ، وأردتَ أن أُهْلِكَ مائةَ ألفٍ من عبادي؟ لم تخلقهم، ولو خَلَقْتَهم لرحمتهم. اهـ.
ثم وبَّخ قريشاً على قولهم: الملائكة بنات الله بعد ذكر هلاك مَن كفر من الأمم قبلهم، تهديداً.


يقول الحق جلّ جلاله: {فاسْتَفتهم ألِرَبِّكَ البناتُ ولهم البنونَ} أَمَرَ رسولَه أولاً في أول السورة باستفتاء قريش على وجه إنكار البعث، بقوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} [الصافات: 11] ثم أمره هنا باستفتائهم عن وجه القسمة الضّيزى التي قسموها، بأن جعلوا لله الإناث، ولهم الذكور في قولهم: الملائكة بنات الله، مع كراهتهم لهن، واستنكافهم من ذكرهن، وليس من باب العطف النحوي، خلافاً للزمخشري.
{أَمْ خلقنا الملائكةَ إِناثاً وهم شاهدون} حاضرون حتى تحققوا أنهم إناث. وتخصيص علمهم بالمشاهدة استهزاء بهم، وتجهيل لهم، لأنهم كما لم يعلموا ذلك مشاهدةً، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم، ولا بإخبار صادق، ولا بطريق استدلال ونظر، بل بمجرد ظن وتخمين، وإلقاء الشيطان إليهم. أو: معناه: أنهم يقولون ذلك عن طمأنينة نفس؛ لإفراط جهلهم، كأنهم شاهدوا خلقهم.
{ألاَ إِنهم من إِفْكِهِمْ لَيقولون وَلَدَ اللهُ وإِنهم لكاذبون} في قولهم. {أَصْطَفَى البناتِ على البنين} الهمزة للاستفهام الإنكاري، وحذفت همزة الوصل استغناء عنها بهمزة الاستفهام، والاصطفاء: أخذ صفوة الشيء، {ما لكم كيف تحكمون} هذا الحكم الفاسد، الذي لا يرتضيه عقل ولا نقل، {أفلا تَذَكَّرُون} فتعرفوا أنه منزّه عن ذلك؟ {أم لكم سلطان مبين} حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بنات الله؟ {فأْتوا بكتابكم} الذي أنزل عليكم، {إِن كنتم صادقين} في دعواكم.
{وجعلوا بينه} بين الله {وبين الجِنَّةِ} الملائكة لاستتارهم، {نَسَباً} وهو زعمهم أنهم بنات الله. أو: قالوا: إن الله صاهر الجن، تزوج سَرَوَاتِهم فولدت له الملائكة، تعالى الله عن قولهم عُلواً كبيراً. {ولقد عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنهم لمُحْضَرُونَ} أي: ولقد علمت الملائكة إن الذين قالوا هذا القول لمحضرون في النار. أو: لقد علمت الملائكة أنهم سيحضرون للحساب من جملة العباد، فكيف تكون بنات الله؟ {سبحان الله عما يصفون} نزّه نفسه عما يصفه الكفرة من الولد والصاحبة، {إِلا عبادَ الله المخلَصين} استثناء منقطع من {المحضرين}، أي: لكن المخلصون ناجون من النار. و {سبحان الله}: اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه، ويجوز أن يقع الاستثناءُ من واو {يصفون}، أي: عما يصفه هؤلاء الكفرة لكن المخلصون برءاء من أن يصفوه بذلك.
الإشارة: الحق تعالى في عالم القدرة منزَّه عن الولد والصاحبة، وتصور الأثنينية، وإنما سر الازدواج والتولد خاص بعالم الحكمة في حضرة الأشباح، فليكن للعارف عينان عين تنظر لعالم القدرة في حضرة أسرار الذات، فتوحّد الله، وتنزهه عن الاثنينية، وعين تنظر لعالم الحكمة، فتثبت سر الازدواج والتولد في حضرة الأشباح، والمظهر واحد، ولا يفهم هذا إلا الأفراد من البحرية، الذين خاضوا بحر أحدية الذات وتيار الصفات، فحطَّ رأسك لهم، إن أردت أن تذوق هذه الأسرار. وإلا فسلّم تسلم.


يقول الحق جلّ جلاله: {فإِنكم} أيها المشركون {وما تعبدون} أي: ومعبوديكم، {ما أنتم} وهم جميعاً {عليه} على الله {بفاتِنين} بمضلّين، {إِلا من هو صَالِ الجحيم} أي: إلا مَن سبق في علمه أنه من أهل النار. والمعنى: إنكم لستم تضلُّون أحداً إلا أصحاب النار، الذين سبق في علمه أنهم يستوجبون بأعمالهم النار، يقال: فتن فلانٌ على فلانٍ امرأته: أفسدها عليه. وقال الحسن: فإنكم أيها القائلون لهذا القول والذي تعبدونه من الأصنام، ما أنتم على عبادة الأصنام بمضلّين أحداً، إلا مَن أوجبتُ عليه الضلال في السابقة. اهـ. وفيها دليل للقدر، بل هي صريحة فيه. و ما في أنتم: نافية، و مَن: في موضع النصب بفاتنين، على الاستثناء المفرغ، أي: لا تفتنون إلا الذي هو صالي الجحيم. وحذفت الياء في الرسم اكتفاء بالكسرة، وقرأ الحسن: {صالُ الجحيم} بضم اللام ووجهه: أنه جمْع، فحذفت النون للإضافة. والواو لالتقاء الساكنين، و مَن مفرد في اللفظ، جمع في المعنى، فحمل هو على اللفظ، و الصالون على المعنى.
الإشارة: ويقال لمَن يُرغّب الناس في الدنيا، ويدلهم على جمعها، والاعتناء بها، بمقاله، أو بحاله، ويزهّد في طريق التجريد والانقطاع إلى الله: ما أنتم بقانتين أحداً عن طريق الله، إلا مَن سبق أنه يصلى نار القطيعة والبُعد، وأما مَن سبقت له سابقة الوصال، فلا يصده عن الله فاتن ولا ضال. ولا شك أن مَن يدلّ الناس على الدنيا فقد غشّهم. قال القطب ابن مشيش رضي الله عنه: مَن دلّك على الدنيا فقد غشك، ومَن دلّك على العمل فقد أتبعك، ومَن دلّك على الله فقد نصحك. اهـ. فالدلالة على الدنيا من شأن المغرورين، ورين الفاتنين، والدلالة على العمل من شأن الصالحين، الواقفين مع ظاهر الشريعة وعملها، والدلالة على الله من شأن العارفين أهل التربية، يدلون على الله، بسقي الكؤوس، ونسيان النفوس، ودخول حضرة القدوس، من باب الكرم والجود. وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7